أمه أم ولد تسمى علية   (1) اشتراها عقيل من الشام .
 روى  المدائني قال : قال معاوية بن أبي سفيان لعقيل بن أبي طالب يوما : هل من  حاجة فأقضيها لك ؟ قال : نعم ، جارية عرضت علي وأبى أصحابها أن يبيعوها إلا  بأربعين ألفا ، فأحب معاوية أن يمازحه فقال : وما تصنع بجارية قيمتها  أربعون ألفا وأنت أعمى تجتزي بجارية قيمتها أربعون درهما ! قال : أرجو أن  أطأها فتلد لي غلاما إذا أغضبته ضرب عنقك بالسيف ، فضحك معاوية وقال : ما  زحناك يا أبا يزيد ! وأمر فابتيعت له الجارية التي أولد منها مسلما ، فلما  أتت على مسلم سنون   (2)  وقد مات أبوه عقيل ، قال مسلم لمعاوية : إن لي أرضا بمكان كذا من المدينة  وقد أعطيت بها مائة ألف وقد أحببت أن أبيعك إياها ، فادفع لي ثمنها ، فأمر  معاوية بقبض الأرض ، ودفع الثمن إليه ، فبلغ ذلك الحسين ( عليه السلام )  فكتب إلى معاوية : " أما بعد . . . فإنك غررت غلاما من بني هاشم فابتعت منه  أرضا لا يملكها ، فاقبض منه ما دفعته إليه ، وأردد إلينا أرضنا " . فبعث  معاوية إلى مسلم ، فأقرأة كتاب الحسين ( عليه السلام ) وقال له : اردد  علينا مالنا وخذ أرضك ،  فإنك بعت ما لا تملك . فقال مسلم : أما دون أن  أضرب رأسك بالسيف فلا . فاستلقى معاوية ضاحكا يضرب برجليه ، ويقول له : يا  بني هذا والله قاله لي أبوك حين ابتعت له أمك . ثم كتب إلى الحسين : إني قد رددت أرضكم وسوغت مسلما ما أخذ   (3) . 
وروى أبو مخنف وغيره : أن أهل الكوفة لما كتبوا إلى الحسين دعا مسلما فسرحه مع قيس بن مسهر ، وعبد الرحمن بن عبد الله ، وجماعة من الرسل ، فأمره بتقوى الله وكتمان أمره واللطف ، فإن رأى الناس مجتمعين عجل إليه بذلك ، وكتب إليهم :
 "  أما بعد : فقد أرسلت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل  وأمرته أن يكتب لي إن رآكم مجتمعين ، فلعمري ما الإمام إلا من قام بالحق "   (4) ، وما يشاكل هذا . فخرج من مكة في أواخر شهر رمضان وأتى المدينة ، فصلى في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وودع أهله وخرج فاستأجر دليلين من قيس فجارا عن الطريق واشتد عليهم العطش فلم يلبثا أن ماتا . 
وأقبل  مسلم ومن معه حتى انتهوا إلى الماء وقد أشار الدليلان إليهما عليه ، فكتب  مسلم مع قيس إلى الحسين ( عليه السلام ) من المضيق من بطن خبت   (5) أما بعد : 
فإني  خرجت من المدينة ومعي دليلان فجارا عن الطريق وعطشنا ، فلم يلبثا أن مات  وانتهينا إلى الماء فلم ننج إلا بحشاشة أنفسنا ، وقد تطيرت من وجهي هذا ،  فكتب إليه الحسين ( عليه السلام ) ، أما بعد : " فقد خشيت أن يكون   (6) حملك على هذا غير ما تذكر فامض لوجهك الذي وجهتك له والسلام " .
 فسار مسلم حتى مر بماء لطئ فنزل ، ثم ارتحل فإذا رجل قد رمى ظبيا حين أشرف له فصرعه فقال مسلم : يقتل عدونا إن شاء الله .
 وأقبل  مسلم حتى دخل الكوفة فنزل دار المختار بن أبي عبيد فحضرته الشيعة واجتمعت  له ، فقرأ عليهم كتاب الحسين ( عليه السلام ) الذي أجابهم به ، فأخذوا  يبكون وخطبت بمحضره خطباؤهم كعابس الشاكري ، وحبيب الأسدي ، فبلغ ذلك  النعمان ابن بشير الأنصاري - وكان عامل يزيد على الكوفة - فخرج وخطب الناس  وتوعدهم ولان في كلامه ، فقام إليه عبد الله  بن مسلم بن سعيد الحضرمي حليف بني أمية فأنبه وخرج ، فكتب هو وعمارة بن  عقبة إلى يزيد بأمر النعمان وأنه ضعيف أو يتضاعف ، وأخذ الناس يبايعون  مسلما حتى انتهى ديوانه إلى ثمانية عشر ألف مبايع أو أكثر ، فكتب إلى  الحسين ( عليه السلام ) بذلك مع عابس بن أبي شبيب الشاكري وسأله الإعجال  بالقدوم عليه ، لاشتياق الناس إليه . ولما بلغ ذلك يزيد استشار ذويه فيمن  يوليه ، فأشار عليه سرجون مولى أبيه بعبيد الله  بن زياد وأخرج إليه عهد أبيه فيه ، فولاه وكتب إليه بولاية المصرين مع  مسلم بن عمرو الباهلي . فسار مسلم حتى ورد البصرة . وقد كان الحسين ( عليه  السلام ) كتب إلى أهل البصرة مع مولاه سليمان ، فصلبه عبيد الله  وتهدد الناس ، وخلف مكانه أخاه عثمان وخرج إلى الكوفة ، وأخرج معه شريك بن  الأعور ، ومسلم بن عمرو وجماعة من خاصته ، فساروا فجعل شريك يتساقط في  الطريق ليعرج إليه عبيد الله فيقيم عليه فيبادر الحسين ( عليه السلام ) الكوفة قبل دخولهم فيتمكن من الناس ، ولكن الحسين لم يكن خرج من مكة كما ظن شريك ، وعبيد الله  لم يعرج على شريك كلما سقط كما زعم ، فدخل الكوفة قبل أصحابه ، فظن الناس  أنه الحسين ( عليه السلام ) لتشبهه به لباسا وتلثمه ، فدخل القصر والنعمان  يظنه الحسين ، والناس تقول له مرحبا بابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتتبعه ، فسد النعمان باب القصر ، فصاح به افتح لا فتحت ، فعرفه وفتح الباب وعرفها الناس كلمة عبيد الله فانكفأوا وانكفوا ، وبات مسلم والناس حوله . 
فلما أصبح دخل شريك الكوفة فنزل على هاني بن عروة فزاره مسلم وعاده ، فقال لمسلم : أرأيت لو عادني عبيد الله أكنت قاتله ؟ قال : نعم ، فبقي عند هاني ، وأصبح عبيد الله فبعث عينا له من مواليه يتوصل إلى مسلم ، وعاد شريك بن الأعور فلم يحب مسلم قتله حتى ظهر من تلويحات شريك لعبيد الله ، فنهض ومات شريك وأخبره عينه أن مسلما عند هاني فبعث على هاني وحبسه ، فجمع مسلم أصحابه وعقد لعبيد الله  بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة ، وقال له سر أمامي في الخيل .  وعقد لمسلم بن عوسجة على ربع مذحج وأسد وقال : انزل في الرجال ، وعقد لأبي  ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان ، وعقد للعباس بن جعدة الجدلي على ربع  المدينة ، ثم أقبل نحو القصر فأحاطوا به حتى أمر عبيد الله  بسد الأبواب ، فأشرف من القصر أشراف الكوفة يخذلون الناس بالترغيب  والترهيب ، فما أمسى المساء إلا وقد انفض الجمع من حول مسلم ، وخرج شبث بن  ربعي ، والقعقاع بن شور الذهلي ، وحجار بن أبجر العجلي ، وشمر بن ذي الجوشن  الكلابي يخذلون الناس ، وخرج كثير بن شهاب بن الحصين الحارثي في عدد للقبض  على من رآه يريد مسلما ، فقبض على جماعة فحبسهم عبيد الله . ثم إن مسلما خرج من المسجد منفردا لا يدري أين يتوجه ، فمر بدار امرأة يقال لها ( طوعة ) كانت تحت الأشعث بن قيس   (7) ثم تزوجها أسيد الحضرمي فولدت منه بلالا ومات أسيد عنه   (8)  ، فاستسقاها فسقته وشرب فوقف ، فقالت له : ما وقوفك ؟ فاستضافها فأضافته  وعرفته فأخفته ببيت لها ، فاسترابها بلال ابنها بكثرة الدخول والخروج لذلك  البيت فاستخبرها فما كادت تخبره حتى استحلفته وأخبرته ، فخرج صبحا للقصر ،  فرأى ابن زياد وعنده أشراف الناس وهو يتفحص عن مسلم فأسر لمحمد بن الأشعث  بخبره ، فقال ابن زياد : وما قال لك ؟ فأخبره ، فنخسه بالقضيب في جنبه ثم  قال : قم فاتني به الساعة .
 فخرج ومعه عمرو بن عبيد الله  بن العباس السلمي في جماعة من قيس حتى أتوا الدار ، فسمع مسلم حوافر الخيل  فخرج وبيده سيفه ، فقاتل القوم قتلا شديدا ، وكان أيدا ، ربما أخذ الرجل  ورمى به على السطح ، فجعلوا يوقدون أطناب القصب ويرمونها عليه ويرضخونه  بالحجارة من السطوح ، وهو لا يزال يضرب فيهم بسيفه ويقول في خلال ذلك  متحمسا : 
أقسمت لا أقتل إلا حرا * وإن رأيت الموت شيئا نكرا 
كل امرء يوما ملاق شرا * أو يخلط البارد سخنا مرا
 رد شعاع النفس فاستقرا * أخاف أن أكذب أو أغرا
 ثم  اختلف هو وبكير بن حمران الأحمري بضربتين فضرب بكير فم مسلم فقطع شفته  العليا ، وأسرع السيف في السفلى ، ونصلت لها ثنيتان ، فضربه مسلم ضربة  منكرة في رأسه وثنى بأخرى على حبل عاتقه كادت تأتي على جوفه فاستنقذه  أصحابه . وعاد مسلم ينشد شعره ، فقال له محمد بن الأشعث : لك الأمان يا فتى  ، لا تقتل نفسك ، إنك لا تكذب ولا تخدع ولا تغر ، إن القوم بنو عمك وليسوا  بقاتليك ولا ضاربيك ، فلما رأى مسلم أنه قد أثخن بالحجارة وأضرت به أطنان  القصب المحرق وأنه قد انبهر أسند ظهره إلى جنب تلك الدار فكرر عليه محمد  الأمان ودنا منه ، فقال : آمن أنا ؟ قال : نعم .
 وصاح القوم : أنت آمن . سوى عمر وبن عبيد الله بن العباس السلمي فإنه قال : لا ناقة لي في هذا ولا جمل وتنحى ، فقال مسلم : أما لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم . 
ثم  أتي ببغلة فحمل عليها وطافوا حوله فانتزعوا سيفه من عنقه ، فكأنه آيس من  نفسه فدمعت عيناه ، وقال : هذا أول الغدر ، فقال محمد : أرجو أن لا يكون  عليك بأس ، فقال : ما هو إلا الرجاء ، أين أمانكم ؟ ! إنا لله وإنا إليه  راجعون وبكى ، فقال عمرو السلمي : إن من يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل  الذي نزل بك لم يبك ، فقال : إني والله ما  لنفسي أبكي ولا لها من القتل أرثي ، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفا ،  ولكن أبكي لأهلي المقبلين إلي ، أبكي لحسين وآل حسين ، ثم قال لمحمد بن  الأشعث : يا عبد الله إني أراك ستعجز عن  أماني ، فهل عندك خير ؟ أتستطيع أن تبعث من عندك رجلا على لساني يبلغ حسينا  ، فإني لأراه قد خرج إليكم اليوم مقبلا أو هو خارج غدا وأهل بيته معه ،  وإن ما ترى من جزعي لذلك ، فيقول : إن مسلما بعثني إليك وهو في أيدي القوم  أسير لا يرى أن يمسي حتى يقتل وهو يقول : إرجع بأهل بيتك ولا يغرك أهل  الكوفة فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل ، إن أهل  الكوفة قد كذبوك وكذبوني ، وليس لمكذوب رأي ، فقال محمد : والله  لأفعلن ولأعلمن ابن زياد إني قد آمنتك . قال جعفر بن حذيفة الطائي : فبعث  محمد أياس بن العتل الطائي من بني مالك ابن عمرو بن ثمامة وزوده وجهزه ومتع  عياله ، وأرسله للحسين فاستقبله بزبالة   (9) لأربع ليال بقين من الشهر ، وكان عبيد الله  بن زياد بعث رئيس الشرطة الحصين بن تميم التميمي في نحو من ألفي فارس  فأطافوا بالطف ونظموا المسالح ومنعوا الداخل والخارج ، فهم على خط واحد فلم  تحصل له فرصة إلا ذلك الزمن . قال أبو مخنف : ثم أقبل محمد بن الأشعث  بمسلم إلى باب القصر فاستأذن فأذن له ، فأخبر عبيد الله بخبر مسلم وضرب بكير إياه ، فقال : بعدا له ، فأخبره بأمانه ، فقال : ما أرسلناك لتؤمنه إنما أرسلناك لتأتي به .
 فسكت .
 وانتهى  مسلم إلى باب القصر وهو عطشان ، وعلى باب القصر أناس ينتظرون الإذن منهم :  عمارة بن عقبة بن أبي معيط ، وعمرو بن حريث ، ومسلم بن عمرو الباهلي ،  وكثير بن شهاب ، فاستسقى مسلم وقد رأى قلة موضوعة على الباب ، فقال مسلم  الباهلي : أتراها ما أبردها ! لا والله لا  تذوق منها قطرة حتى تذوق الحميم في نار جهنم ! فقال له : ويحك من أنت ؟ قال  : أنا ابن من عرف الحق إذ أنكرته ونصح لإمامه إذ عششته ، وسمع وأطاع إذ  عصيته وخالفته ، أنا مسلم بن عمرو الباهلي ، فقال : لأمك الثكل ! ما أجفاك  وما أفظك ، وأقسى قلبك وأغلظك ! أنت يا بن باهلة أولى بالحميم والخلود في  نار جهنم مني ، ثم تساند وجلس إلى الحائط ، فبعث عمرو بن حريث مولاه سليمان  فجاءه بقلة ، وبعث عمارة غلامه قيسا فجاءه بقلة عليها منديل فصب له ماء  بقدح ، فأخذ كلما شرب امتلأ القدح دما من فمه ، حتى إذا كانت الثالثة سقطت  ثنيتاه في القدح ، فقال : الحمد لله لو كان من الرزق المقسوم لي لشربته . 
ثم أدخل مسلم فلم يسلم بالإمرة على عبيد الله ، فاعترضه الحرسي بذلك ، فقال عبيد الله : دعه فإنه مقتول ، فقال له مسلم : أكذلك ؟ قال : نعم ، قال : فدعني أوص إلى بعض قومي . فنظر إلى جلساء عبيد الله  فإذا عمر بن سعد فيهم ، فقال : يا عمر ، إن بيني وبينك قرابة ، ولي إليك  حاجة ، وقد يجب عليك نجح حاجتي ، وهو سر . فأبى أن يمكنه من ذكرها ، فقال  له عبيد الله : لا تمتنع أن تنظر في حاجة ابن  عمك ، فقام معه وجلس بحيث ينظر إليه ابن زياد ، فقال : إن علي بالكوفة  دينا استدنته منذ قدمت الكوفة سبعمأة درهم ، فاقضها عني ببيع لأمتي واستوهب  جثتي من ابن زياد فوارها ، وابعث إلى الحسين ( عليه السلام ) من يرده ،  فإني كتبت إليه أعلمه أن الناس معه ، ولا أراه إلا مقبلا .
 فقال  عمر لابن زياد : أتدري ما قال لي ؟ أنه قال كذا وكذا ، فقال ابن زياد : ما  خانك الأمين ولكن ائتمنت الخائن ، أما ماله فهو لك فاصنع به ما شئت ، وأما  جثته فلن نبالي إذا قتلناه ما يصنع بها ، أو قال : فلن نشفعك فيها فإنه  ليس بأهل منا لذلك قد جاهدنا وجهد على هلاكنا ، وأما حسين فإن لم يردنا لم  نرده وإن أرادنا فلن نكف عنه ، ثم قال : إيه يا بن عقيل أتيت الناس وأمرهم  جميع وكلمتهم واحدة ، لتشتتهم وتحمل بعضهم على بعض ؟ قال : كلا ، ما أتيت  لذلك ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم ، وسفك دماءهم ، وعمل فيهم  أعمال كسرى وقيصر ، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعوا إلى حكم الكتاب . قال :  وما أنت وذاك يا فاسق ، أولم نكن نعمل بذاك فيهم إذ أنت بالمدينة تشرب  الخمر ؟ قال : أنا أشرب الخمر ؟ ! والله إن الله  يعلم أنك غير صادق ، وإنك قلت بغير علم ، وأني لست كما ذكت ، وإن أحق بشرب  الخمر مني من يلغ في دماء المسلمين ولغا ، فيقتل النفس التي حرم الله  قتلها ، ويقتل النفس بغير النفس ، ويسفك الدم الحرام ، ويقتل على الغضب  والعداوة وسوء الظن ، وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئا . فقال ابن زياد :  يا فاسق إن نفسك تمنيك ما حال الله دونه ولم يرك أهله ، قال : فمن أهله يا بن زياد ؟ قال : أمير المؤمنين يزيد .
 قال : الحمد لله رضينا بالله حكما بيننا وبينكم . قال : كأنك تظن أن لكم في الأمر شيئا ؟ قال : ما هو الطن ولكنه اليقين ، قال : قتلني الله  إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام ! قال : أما إنك أحق من أحدث  في الإسلام حدثا لم يكن منه ، أما إنك لا تدع سوء القتلة ، وقبح المثلة ،  وخبث السريرة ، ولؤم الغلبة لأحد أحق بها منك ، فأخذ ابن زياد يشتمه ويشتم  عليا وحسينا وعقيلا ، وأخذ مسلم بالسكوت والإعراض عنه ، فقال ابن زياد ،  اصعدوا به فوق القصر ، وادعوا بكير بن حمران الأحمري الذي ضربه مسلم ،  فصعدوا به ، وأحضر بكير فأمره أن يضرب عنقه ويتبع برأسه جسده من أعلى القصر  ، فصاح مسلم بمحمد بن الأشعث : قم بسيفك دوني فقد أخفرت ذمتك ، أما والله لولا أمانك ما استسلمت . فأعرض محمد ، وجعل مسلم يسبح الله ويقدسه ويكبره ويستغفره ، ويصلي على أنبياء الله وملائكته ويقول : اللهم  احكم بيننا وبين قوم غرونا وكذبونا وأذلونا ، فأشرف به من على القصر ،  فضربت عنقه واتبع جسده رأسه ، ونزل بكير فقال له ابن زياد : وما كان يقول ؟  قال : إنه كان يسبح ويستغفر ، فلما أدنيته قلت :
الحمد لله الذي أقادني منك . 
وضربته  ضربة لم تغن شيئا ، فقال لي : أما ترى في خدش تخدشنيه وفا من دمك أيها  العبد ؟ فقال ابن زياد : أوفخرا عند الموت ؟ ثم قال : إيه . قال : وضربته  الثانية فقتلته ، ثم أمر ابن زياد فقتل هاني وجملة من المحبوسين ، وجرت  جثتا مسلم وهاني بحبلين في الأسواق   (10) . 
وقتل مسلم في اليوم الثامن من ذي الحجة يوم خروج الحسين ( عليه السلام ) من مكة . 
قال أبو مخنف : وحدث عبد الله  بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين قالا : لما قضينا حجنا لم يكن لنا  همة إلا اللحاق بالحسين في الطريق لننظر ما يكون من أمره وشأنه ، فأقبلنا  ترقل بنا ناقتانا مسرعين حتى لحقناه بزرود   (11)  ، فلما دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى  الحسين ، قالا : فوقف الحسين كأنه يريده ، ثم تركه ومضى ، فقال أحدنا  لصاحبه : إمض بنا إليه لنسأله عن خبر الكوفة ، فانتهينا إليه وسلمنا  وانتسبنا ، فإذا هو بكير بن المثعبة الأسدي فاستخبرناه عن الكوفة فقال : ما  خرجت حتى رأيت مسلما وهانيا قتيلين يجران بأرجلهما في السوق . ففارقناه  ولحقنا بالحسين ، فسلمنا عليه وسايرناه ، حتى نزل الثعلبية ممسيا فدخلنا  عليه وقلنا له : يرحمك الله إن عندنا خبرا إن شئت حدثناك به علانية وإن شئت سرا . 
فنظر إلى أصحابه وقال : ما دون هؤلاء سر . فقلنا : أرأيت الراكب الذي استقبلك عشاء أمس ؟ قال : نعم ، وقد أردت مسألته . 
فقلنا  قد استبرأنا لك خبره ، وكفيناك مسألته وهو امرؤ من أسد منا ذو رأى وصدق  وفضل وعقل ، وإنه حدثنا بكيت وكيت . فاسترجع وقال : رحمة الله عليهما وكررها مرارا .
 فقلنا ننشدك الله  في نفسك وأهل بيتك إلا انصرفت فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ، بل نتخوف أن   يكونوا عليك فاعترضته بنو عقيل بأننا لا نترك ثأرنا ، فالتفت إلينا الحسين  وقال : " لا خير في العيش بعد هؤلاء " ، فعلمنا أنه عزم على المسير ، فقلنا  له : خار الله لك . فدعا لنا ، فقال له أصحابه : إنك والله ما أنت مثل مسلم ، ولو قدمت الكوفة كان الناس إليك أسرع  (12) .
 قال أهل السير : ولما ورد الحسين زبالة   (13) أخرج كتاب لأصحابه فقرأه عليهم وفيه : أما بعد فقد أتانا خبر فظيع إنه قتل مسلم وهاني وعبد الله بن يقطر ، وقد خذلنا شيعتنا ، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منا ذمام ، فتفرق الناس عنه يمينا وشمالا إلا صفوته   (14) .
 وروى بعض المؤرخين : أن الحسين لما قام من مجلسه بالثعلبية   (15)  توجه نحو النساء وانعطف على ابنة لمسلم صغيرة ، فجعل يمسح على رأسها  فكأنها أحست ، فقالت ما فعل أبي ، فقال يا بنية أنا أبوك ، ودمعت عينه ،  فبكت البنت وبكت النساء لذلك . 
قال أهل السير : ثم إن ابن زياد بعث برأسي مسلم وهاني إلى يزيد مع هاني بن أبي حية الوادعي والزبير بن الأروح التميمي   (16)  ، واستوهبت الناس الجثث فدفنوها عند القصر حيث تزار اليوم ، وقبراهما كل  على حدة . وإني لأستحسن كثيرا قول السيد الباقر بن السيد محمد الهندي فيه :  
سقتك دما يا بن عم الحسين * مدامع شيعتك السافحه ولا برحت هاطلات الدموع * تحييك غادية رائحه
 لأنك لم ترو من شربة * ثناياك فيها غدت طائحه
 رموك من القصر إذ أوثقوك * فهل سلمت فيك من جارحه
 تجر بأسواقهم في الحبال * ألست أميرهم البارحه
 أتقضي ولم تبكك الباكيات * أما لك في المصر من نائحه
 لئن تقض نحبا فكم في زرود * عليك العشية من صائحه
 ولي في ذلك :
 نزفت دموعي ثم أسلمني الجوى * لقارعة ما كان فيها بمسلم
 أجيل وجوه الفكر كيف تخاذلت * بنو مضر الحمراء عن نصر مسلم
 أما كان في الأرباع شخص بمؤمن * وما كان في الأحياء حي بمسلم
( ضبط الغريب ) مما وقع في هذه الترجمة : 
( علية ) : بضم العين وفتح اللام و تشديد الياء المثناة تحت . 
( يتساقط ) : أي يقيم المكان بعد المكان من المرض . 
(  القعقاع ) : بالقاف المفتوحة والعين والمهملة الساكنة والقاف والعين  بينهما ألف ، ابن شور بالشين المضمومة والراء المهملة ، له شرف وسمعة ويضرب  به المثل في المجالسة ، فيقال جليس القعقاع بن شور ، لأنه دخل مجلس معاوية  و قد ضاق فقام رجل وأعطاه مكانه فجلس فيه ثم أمر له معاوية بشئ ، فقال :  أين من قام عن مجلسه لي ؟ فقال : ها أنا ذا ، فقال : خذ ما نلته بمكانك  مكافأة لقيامك . 
( أطنان ) : جمع طن وهو : الحزمة من القصب . 
( رد شعاع النفس ) : الشعاع المتفرق من الشئ تفرقا دقيقا يقال : مارت نفسه شعاعا أي تفرقت من الخوف . 
قال الشاعر : أقول لها وقد طارت شعاعا * من الأبطال ويحك لا تراعي
 فالمعنى  في الرجز أن النفس استقرت بعد ما تفرقت ، ويمضى في جملة من الكتب شعاع  الشمس وهو غلط وتصحيف ، صحفه من لم يفهم شعاع النفس فرأى أن الشعاع بالشمس  أليق . 
( القلة ) : بالضم إناء للماء كالكوز الصغير . 
(  إيه ) : بكسر الهمزة والهاء تنون ولا تنون فإن نونت الهاء كانت كلمة  استنطاق وإن سكنت الهاء كانت كلمة استكفاف ، فمعنى الأولى تكلم ومعنى  الثانية اسكت . 
(  لؤم الغلبة ) : إذا غلب اللئيم تبجح وظهر عليه التجبر ، وإذا غلب الكريم  استحيى وصغرت له همته ما فعل ، فلؤم الغلبة التبجح والاستعلاء وكرمها  التصاغر والاستحياء . 
(  مسلم ) : الأول اسم فاعل من أسلمه إلى الشئ بمعنى أعطاه إياه وخذله ،  والثاني العلم المترجم ، والثالث اسم فاعل من أسلم خلاف كفر . 
(  الأرباع ) : أرباع الكوفة وهي المدينة وكندة ومذحج وتميم ، وتدخل ربيعة مع  كندة ، وأسد مع مذحج ، وهمدان مع تيمم ، وتنضم غيرهم إليهم في الجميع ،  يقال : أرباع الكوفة وأخماس البصرة ، وقد تقدم ذلك . 
--------------------------
 1) في مقاتل الطالبيين ، ص 86 : حلية . وفي تاريخ خليفة ، 145 : حلبة . راجع الطبقات الكبرى : 4 / 29 . 
(2) في المصدر : ثماني عشرة سنة .
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 2 / 251 .
(4) تاريخ الطبري : 3 / 278 . راجع الإرشاد : 2 / 39 .
(5) الخبت : ماء لقبيلة كلب . راجع معجم البلدان : 2 / 343 .
(6) في الإرشاد 2 / 40 : أن لا يكون حملك .
( 7) قال ابن حجر : الأشعث بن قيس بن معد يكرب الكندي ، أبو محمد الصحابي نزل الكوفة ، مات سنة أربعين أو إحدى وأربعين وهو ابن ثلاث وستين . راجع تقريب التهذيب : 1 / 80 ، الرقم 608 .
(8) هكذا في الأصل ، والصحيح : عنها .
(9) زبالة : منزل بطريق مكة من الكوفة . معجم البلدان : 3 / 129 .
(10) تاريخ الطبري : 3 / 291 .
(11) زرود : موضع على طريق حاج الكوفة بين الثعلبية والخزيمية . معجم البلدان : 3 / 139 .
(12) تاريخ الطبري : 3 / 302 ، راجع الإرشاد : 2 / 73 .
(13) زبالة : منزل بطريق مكة من الكوفة . معجم البلدان : 3 / 129 .
(14) الإرشاد : 2 / 75 .
(15) الثعلبية : موضع بطريق مكة .
(16) راجع الإرشاد : 2 / 65 .
(2) في المصدر : ثماني عشرة سنة .
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 2 / 251 .
(4) تاريخ الطبري : 3 / 278 . راجع الإرشاد : 2 / 39 .
(5) الخبت : ماء لقبيلة كلب . راجع معجم البلدان : 2 / 343 .
(6) في الإرشاد 2 / 40 : أن لا يكون حملك .
( 7) قال ابن حجر : الأشعث بن قيس بن معد يكرب الكندي ، أبو محمد الصحابي نزل الكوفة ، مات سنة أربعين أو إحدى وأربعين وهو ابن ثلاث وستين . راجع تقريب التهذيب : 1 / 80 ، الرقم 608 .
(8) هكذا في الأصل ، والصحيح : عنها .
(9) زبالة : منزل بطريق مكة من الكوفة . معجم البلدان : 3 / 129 .
(10) تاريخ الطبري : 3 / 291 .
(11) زرود : موضع على طريق حاج الكوفة بين الثعلبية والخزيمية . معجم البلدان : 3 / 139 .
(12) تاريخ الطبري : 3 / 302 ، راجع الإرشاد : 2 / 73 .
(13) زبالة : منزل بطريق مكة من الكوفة . معجم البلدان : 3 / 129 .
(14) الإرشاد : 2 / 75 .
(15) الثعلبية : موضع بطريق مكة .
(16) راجع الإرشاد : 2 / 65 .
 
 
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق