كان زهير (1) رجلا شريفا في قومه ، نازلا فيهم بالكوفة ، شجاعا ، له في المغازي مواقف مشهورة ومواطن مشهودة . وكان أولا عثمانيا ، فحج سنة ستين في أهله .
ثم عاد فوافق الحسين ( عليه السلام ) في الطريق ، فهداه ، الله وانتقل علويا . روى أبو مخنف عن بعض الفزاريين قال : كنا مع زهير بن القين حين أقبلنا من مكة نساير الحسين ( عليه السلام ) فلم يكن شئ أبغض إلينا من أن نسايره في منزل ، فإذا سار الحسين ( عليه السلام ) تخلف زهير ، وإذا نزل الحسين تقدم زهير ، حتى نزلنا يوما في منزل لم نجد بدا من أن ننازله فيه ، فنزل الحسين في جانب ، ونزلنا في جانب ، فبينا نحن نتغذى من طعام لنا ، إذ أقبل رسول الحسين فسلم ودخل ، فقال : يا زهير بن القين إن أبا عبد الله الحسين بن علي بعثني إليك لتأتيه ، فطرح كل إنسان منا ما في يده حتى كأن على رؤسنا الطير (2) .
قال أبو مخنف : فحدثتني دلهم بنت عمرو ، امرأة زهير قالت : فقلت له : أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه ! سبحان الله لو أتيته فسمعت من كلامه ثم انصرفت ، قالت : فأتاه زهير بن القين ، فما لبث أن جاء مستبشرا قد أسفر وجهه :
فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه ، فقوض وحمل إلى الحسين ( عليه السلام ) ، ثم قال لي : أنت طالق ، الحقي بأهلك ، فإني لا أحب أن يصيبك بسببي إلا خير ، ثم قال لأصحابه : من أحب منكم أن يتبعني وإلا فإنه آخر العهد ، إني سأحدثكم حديثا ، غزونا بلنجر ، ففتح الله علينا وأصبنا غنائم ، فقال لنا سلمان : أفرحتم بما فتح الله عليكم ، وأصبتم من المغانم ؟ فقلنا : نعم . فقال لنا : إذا أدركتم شباب آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) فكونوا أشد فرحا بقتالكم معه بما أصبتم من المغانم ، فأما أنا فإني أستودعكم الله ، قال : ثم والله ما زال أول القوم حتى قتل معه (3) .
وقال أبو مخنف : لما عارض الحر بن يزيد الحسين ( عليه السلام ) في الطريق وأراد أن ينزله حيث يريد فأبى الحسين عليه ، ثم إنه سايره ، فلما بلغ ذا حسم خطب أصحابه خطبته التي يقول فيها : " أما بعد ، فإنه نزل بنا من الأمر ما قد ترون " الخ ، فقام زهير وقال لأصحابه : أتتكلمون أم أتكلم ؟ قالوا : بل تكلم ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : قد سمعنا هداك الله يا بن رسول الله مقالتك ، والله لو كانت الدنيا لنا باقية ، وكنا فيها مخلدين ، إلا أن فراقها في نصرك ومواساتك ، لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها . فدعا له الحسين وقال له خيرا (4) .
وروى أبو مخنف : أن الحر لما ضايق الحسين ( عليه السلام ) بالنزول وأتاه أمر ابن زياد أن ينزل الحسين على غير ماء ولا كلأ ولا في قرية ، قال له الحسين : " دعنا ننزل في هذه القرية " ، يعني نينوى ، أو هذه يعني الغاضرية ، أو هذه يعني شفية . فقال الحر : لا والله لا أستطيع ذلك ، هذا رجل قد بعث علي علينا ، فقال زهير للحسين : يا بن رسول الله إن قتال هؤلاء أهون علينا من قتال من بعدهم ، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : " ما كنت لأبدأهم بقتال " ، فقال له زهير : فسر بنا إلى هذه القرية فإنها حصينة ، وهي على شاطئ الفرات ، فإن منعونا قاتلناهم ، فقتالهم أهون من قتال من يجيئ من بعدهم ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : " وأية قرية هي " ؟ قال : هي العقر ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : " اللهم إني أعوذ بك من العقر " فنزل بمكانه وهو كربلا (5) .
وقال أبو مخنف : لما أجمع عمر بن سعد على القتال نادى شمر بن ذي الجوشن : يا خيل الله اركبي وأبشري بالجنة ، والحسين ( عليه السلام ) جالس أمام بيته محتبيا بسيفه ، وقد وضع رأسه على ركبته من نعاس ، فدنت أخته زينب منه وقالت : يا أخي قد اقترب العدو ، وذلك يوم الخميس التاسع من المحرم بعد العصر ، وجاءه العباس فقال : يا أخي أتاك القوم ، فنهض ثم قال : " يا عباس اركب إليهم حتى تسألهم عما جاء بهم " فركب العباس في عشرين فارسا منهم حبيب بن مظهر وزهير بن القين فسألهم العباس ، فقالوا جاء أمر الأمير بالنزول على حكمه أو المنازلة ، فقال لهم العباس : لا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم ، فوقفوا وقالوا له : ألقه فأعلمه ، ثم القنا بما يقول ، فذهب العباس راجعا ، ووقف أصحابه . فقال حبيب لزهير : كلم القوم إن شئت وإن شئت كلمتهم أنا ، فقال زهير أنت بدأت فكلمهم ، فكلمهم بما تقدم في ترجمته ، فرد عليه عزرة بن قيس بقوله : إنه لتزكي نفسك ما استطعت ، فقال له زهير : إن الله قد زكاها وهداها فاتق الله يا عزرة ، فإني لك من الناصحين ، أنشدك الله يا عزرة أن تكون ممن يعين الضلال على قتل النفوس الزكية .
فقال عزرة : يا زهير ما كنت عندنا من شيعة هذا البيت إنما كنت عثمانيا .
قال : أفلا تستدل بموقفي هذا على أني منهم ! أما والله ما كتبت إليه كتابا قط ، ولا أرسلت إليه رسولا قط ، ولا وعدته نصرتي قط ، ولكن الطريق جمع بيني وبينه ، فلما رأيته ذكرت رسولا قط ، ولا وعدته نصرتي قط ، ولكن الطريق جمع بيني وبينه ، فلما رأيته ذكرت به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومكانه منه ، وعرفت ما يقدم عليه من عدوه وحزبكم : فرأيت أن أنصره ، وأن أكون في حزبه ، وأن أجعل نفسي دون نفسه ، حفظا لما ضيعتم من حق الله وحق رسوله . قال : وأقبل العباس فسألهم إمهال العشية ، فتوامروا ثم رضوا فرجعوا (6) .
وروى أبو مخنف عن الضحاك بن عبد الله المشرقي قال : لما كانت الليلة العاشرة خطب الحسين أصحابه وأهل بيته فقال في كلامه : " هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، فإن القوم إنما يطلبوني " .
فأجابه العباس وبقية أهله بما تقدم في تراجمهم .
ثم أجابه مسلم بن عوسجة بما ذكر وأجابه سعيد بما يذكر . ثم قام زهير فقال : والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل كذا ألف قتلة ، وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك (7) .
وقال أهل السير : لما صف الحسين ( عليه السلام ) أصحابه للقتال وإنما هم زهاء السبعين جعل زهير على الميمنة ، وحبيبا على الميسرة ، ووقف في القلب ، وأعطى الراية لأخيه العباس (8) .
وروى أبو مخنف عن علي بن حنظلة بن أسعد الشبامي (9) عن كثير بن عبد الله الشعبي البجلي (10) ، قال : لما زحفنا قبل الحسين ( عليه السلام ) خرج إلينا زهير بن القين على فرس له ذنوب ، وهو شاك في السلاح ، فقال : يا أهل الكوفة ، نذار لكم من عذاب الله نذار ! إن حقا على المسلم نصيحة أخيه المسلم ، ونحن حتى الآن إخوة وعلى دين واحد وملة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف ، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة ، وكنا أمة وكنتم أمة ، إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد ( صلى الله عليه وآله ) لينظر ما نحن وأنتم عاملون ، إنا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد ، فإنكم لا تدركون منهما إلا السوء عمر سلطانهما كله ، إنهما يسملان أعينكم ، ويقطعان أيديكم وأرجلكم ، ويمثلان بكم ، ويرفعانكم على جذوع النخل ، ويقتلان أماثلكم وقرائكم ، أمثال حجر بن عدي وأصحابه ، وهاني بن عروة وأشباهه .
قال : فسبوه وأنثوا على عبيد الله وأبيه ، وقالوا : والله لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه ، أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير ، فقال لهم زهير : عباد الله إن ولد فاطمة ( عليها السلام ) أحق بالود والنصر من ابن سمية ، فإن لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم ، فخلوا بين هذا الرجل وبين يزيد ، فلعمري إنه ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين ( عليه السلام ) ، قال : فرماه شمر بسهم وقال له : اسكت أسكت الله نامتك ، فقد أبرمتنا بكثرة كلامك ! فقال زهير : يا بن البوال على عقبيه ، ما إياك أخاطب ، إنما أنت بهيمة ، والله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين ، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم . فقال له شمر : إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة ، قال زهير : أفبالموت تخوفني ! ؟
والله للموت معه أحب إلي من الخلد معكم ، قال : ثم أقبل على الناس رافعا صوته ، وصاح بهم : عباد الله لا يغرنكم عن دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه ، فوالله لا تنال شفاعة محمد ( صلى الله عليه وآله ) قوما هرقوا دماء ذريته وأهل بيته ، وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم .
قال : فناداه رجل من خلفه : يا زهير إن أبا عبد الله يقول لك : أقبل ، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء ، لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والإبلاغ ، فذهب إليهم (11) .
وروى أبو مخنف عن حميد بن مسلم قال : حمل شمر حتى طعن فسطاط الحسين ( عليه السلام ) برمحه ، وقال : علي بالنار حتى أحرق هذا البيت على أهله ، فصاحت النساء وخرجن من الفسطاط ، فصاح الحسين : يا بن ذي الجوشن ، أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي على أهلي ، حرقك الله بالنار .
وحمل زهير بن القين في عشرة من أصحابه فشد على شمر وأصحابه ، فكشفهم عن البيوت حتى ارتفعوا عنها ، وقتل زهير أبا عزة الضبابي من أصحاب الشمر وذوي قرباه ، وتبع أصحابه الباقين فتعطف الناس عليهم ، فكثروهم وقتلوا أكثرهم وسلم زهير (12) .
قال أبو مخنف : واستحر القتال بعد قتل حبيب ، فقاتل زهير والحر قتالا شديدا فكان إذا شد أحدهما واستلحم شد الآخر فخلصه ، فقتل الحر ثم صلى الحسين ( عليه السلام ) صلاة الخوف ، ولما فرغ منها تقدم زهير فجعل يقاتل قتالا لم ير مثله ولم يسمع بشبهه وأخذ يحمل على القوم فيقول :
أنا زهير وأنا بن القين * أذودكم بالسيف عن حسين
ثم رجع فوقف أمام الحسين وقال له :
فدتك نفسي هاديا مهديا * اليوم ألقى جدك النبيا
وحسنا والمرتضى عليا * وذا الجناحين الشهيد الحيا
فكأنه ودعه ، وعاد يقاتل فشد عليه كثير بن عبد الله الشعبي ومهاجر بن أوس التميمي فقتلاه (13) .
وقال السروي في المناقب : لما صرع وقف عليه الحسين ( عليه السلام ) فقال : " لا يبعدنك الله يا زهير ، ولعن الله قاتليك ، لعن الذين مسخوا قردة وخنازير " (14) .
وفيه أقول :
لا يبعدنك الله من رجل * وعظ العدى بالواحد الأحد
ثم انثنى نحو الخميس فما * أبقى لدفع الضيم من أحد
( ضبط الغريب ) مما وقع في هذه الترجمة :
( كأن على رؤسنا الطير ) : هذا مثل يضرب في السكون من التحير فإن الطير لا يقع إلا على ساكن .
( بلنجر ) : بالباء الموحدة واللام المفتوحتين والنون الساكنة والجيم المفتوحة والراء المهملة آخر الحروف وهي مدينة في الخزر عند باب الأبواب (15) ، فتحت في زمان عثمان على يد سلمان بن ربيعة الباهلي أو سلمان الفارسي كما ذكره ابن الأثير (16) .
وقتل سلمان بن ربيعة بعد فتحها ، فقال فيه عبد الرحمن الباهلي :
وإن لنا قبرين قبر بلنجر * وقبرا بأرض الصين يا لك من قبر
يعني بالأول قبر سلمان الباهلي وبالثاني قبر قتيبة بن مسلم الباهلي .
( فقوله ) : فقال لنا سلمان يحتمل الباهلي لأنه رئيس الجيش ، ويحتمل الفارسي لأنه في الجيش على ما ذكره ابن الأثير في الكامل .
( نينوى ) : قرية عند كربلا .
( الغاضرية ) : قرية عند كربلا أيضا تنسب لبني غاضرة من أسد .
( شفية ) : قرية عند كربلا أيضا ، وتضبط بضم الشين المعجمة والفاء المفتوحة والياء المثناة تحت المشددة والتاء آخر الكلمة ، ولم أر من ذكرها في المعاجم .
( نذار ) : بفتح النون وكسر الراء أي : خافوا وهو اسم فعل من الانذار ، وهو الابلاغ مع التخويف وبناؤه على الكسر .
( العصمة ) : أي المنعة بالإسلام يقال من شهد الشهادتين فقد عصم نفسه أي منعها .
( يسملان ) : يقال : سمل عينه أي فقأها بميل محمي .
( أسكت الله نامتك ) : النأمة بالهمزة والنامة بالتشديد الصوت ، يقال ذلك كناية عن الموت وهو دعاء عند العرب مشهور .
( أبرمتنا ) : أي أضجرتنا ،
( استحر ) : أي اشتد ، قال ابن الزبعرى :
حين حكت بقباء بركها * واستحر القتل في عبد الأشل
( استلحم ) : الرجل إذا احتوشه العدو في القتال .
--------------------------------------
(1) عده الشيخ الطوسي في أصحاب الحسين ( عليه السلام ) . راجع رجال الشيخ : 101 ، الرقم 983 .
(2) تاريخ الطبري : 3 / 302 .
(3) تاريخ الطبري : 3 / 302 .
(4) تاريخ الطبري : 3 / 307 .
(5) تاريخ الطبري : 3 / 310 .
(6) تاريخ الطبري : 3 / 314 .
(7) تاريخ الطبري : 3 / 316 ، راجع الإرشاد : 2 / 92 .
(8) الإرشاد : 2 / 95 .
(9) في المصدر : الشامي .
(10) ليس في المصدر : البجلي .
( 11) تاريخ الطبري : 3 / 319 - 320 .
(12)خ الطبري : 3 / 326 .
(13) تاريخ الطبري : 3 / 328 بتفاوت .
(14) المناقب : 4 / 103 .
(15) راجع معجم البلدان : 1 / 489 .
(16) الكامل : 2 / 483 .
(2) تاريخ الطبري : 3 / 302 .
(3) تاريخ الطبري : 3 / 302 .
(4) تاريخ الطبري : 3 / 307 .
(5) تاريخ الطبري : 3 / 310 .
(6) تاريخ الطبري : 3 / 314 .
(7) تاريخ الطبري : 3 / 316 ، راجع الإرشاد : 2 / 92 .
(8) الإرشاد : 2 / 95 .
(9) في المصدر : الشامي .
(10) ليس في المصدر : البجلي .
( 11) تاريخ الطبري : 3 / 319 - 320 .
(12)خ الطبري : 3 / 326 .
(13) تاريخ الطبري : 3 / 328 بتفاوت .
(14) المناقب : 4 / 103 .
(15) راجع معجم البلدان : 1 / 489 .
(16) الكامل : 2 / 483 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق